سياحة تاريخية في أدب الرحلات على ضفاف الثقافة العربية..
سياحة
تاريخية في أدب الرحلات على ضفاف الثقافة العربية..
الوطن العربى اليومية - القاهرة ..
نظم الملتقى الثقافي الأهلي ضمن فعالياته الثقافية محاضرة عن
أدب الرحلات لعبدالله المدني، تحدث خلالها عن تجربته الشخصية في الرحلة، والتي
قادته إلى أكثر من 140 مدينة في 67 بلدا موزعة على قارات العالم الست، كما تطرق في
محاضرته إلى كتابه «عشرون عاما من الترحال» والذي طبع في الدمام مطلع التسعينات من
القرن الماضي، ويمثل امتدادا لكتب أدب الرحلة ولكن من زاوية التطرق إلى الأخطاء
التي وقع فيها المؤلف في تجواله ورحلاته، كما تناول المدني بعض الصعوبات التي
واجهته للحصول على تصريح بنشر الكتاب وغير ذلك. كما صاغ المدني في محاضرته الخطوط
العامة لتطور أدب الرحلة تاريخيا، مع تفصيل للحديث عن أبرز الاعلام والمؤلفات في
أدب الرحلة عبر العصور المختلفة في الثقافة العربية، ولأهمية هذا الحديث، كونه
نادرا على مستوى الساحة الثقافية المحلية تأليفا أو نقدا نورد فيما يأتي أبرز
المسائل الواردة في المحاضرة، والتي تمثل إضاءات مهمة.
يقرر المدني في بداية محاضرته أن أدب الرحلات فن بات يعاني اليوم من
الضمور والتراجع والانحسار غير المسبوق، سواء لجهة المنتج منه، أو لجهة أعداد
الشغوفين به، وذلك بسبب الثورة الهائلة التي نعيشها في الاتصالات والمعلوماتية
والتي حولت الكون ليس إلى مجرد قرية صغيرة كما يقال وإنما إلى غرفة جلوس، وفي ظل
هذه الثورة العجيبة صار بإمكان أي فرد سواء كان في أم القيوين أو في القطب الشمالي
أن يتعرف وهو مسترخ في مقعده بكبسة زر على المعالم العمرانية والأثرية والاقتصادية
وعلى عادات الناس وطقوسهم ومسالك حياتهم، وعلى حال الطقس ومستويات الأسعار، وطبيعة
الأمن وغير ذلك في أماكن مثل ولومولو، أو لوينج برارنج، أو وجادوجو، بل أصبح متاحا
له أن يرى هذا حيا وبألوانها الطبيعة وبتقارير متجددة كل ساعة، وبالتالي صار من
غير المستساغ ومن غير المعقول أن يلجأ المرء الباحث عن معرفة البلدان والشعوب إلى
كتاب يتحدث عن هذه الأمور في فترة زمنية معينة، ومن دون صور حية، وبأسلوب قد لا
يفهمه، أو عبر صيغة وصفية تتطلب منه قدرة معينة للتخيل، والاستثناء الوحيد الذي
يجعل لكتب الرحلات في زمننا الراهن قيمة، هو أن يكون كاتبه من الأسماء الكبيرة
الرنانة، وأن يكون المتلقي شغوفا بمعرفة رأي هذا الكاتب في هذه البلدان.
وفي حديثه عن الخصوصية الأجناسية لهذا اللون الأدبي وتميزه عن سواه
يقول: «ان أدب الرحلات لون من ألوان الأدب ذو خصوصية وتميز، ولئن اشترك أدب
الرحلات مع فن الرواية من حيث اللجوء إلى السرد والوصف، فإنه يختلف في عدم اللجوء إلى
الخيال، وفي حين أن الرواية لا تقدم المعلومة إلا نادراؤ، فإن فن أدب الرحلات يقدم
معلومات هائلة، في ثوب أدبي متفاوت بحسب الكاتب وقدراته. واحدى مميزات أدب الرحلات
أنه يمنح الكاتب حرية قلّما تتوافر في الأشكال الأخرى من الفنون الأدبية، وهي حرية
اختيار المشاهد والحوادث، وحرية إسباغ ثقافته وقدرته الإبداعية النثرية أو الشعرية
على ما يكتب أو ما يريد أن يكتب».
ويؤكد أن هذا اللون من فنون الأدب العربي ظهر ونما واشتد عوده في عصر
النهضة العربية الإسلامية، وتحديدا في العصر العباسي. لأن أصحاب القرار كانوا من
المشجعين على الانفتاح على حضارة الآخر، والتواصل معها، والاستفادة منها،
والاقتباس من دررها دونما حرج أو خوف أو وسوسة أو استهانة بالآخر. ونتيجة لهذا
انطلق المبدعون العرب الأوائل في أنحاء المعمورة باعتبارهم مكتشفين جغرافيين أو
مدونين تاريخيين أو مفسرين لظواهر اجتماعية معينة أو دارسين لفلسفات الآخر وعلومه،
ومن هنا لم يكن غريبا أن تكون أوائل كتب الرحلات العربية من إنتاج العصر العباسي.
وذكر المدني عن مسألة التسمية أي «أدب الرحلات» ان هذا الفن من فنون
الأدب العربي لم يظهر في عصر النهضة العربية الإسلامية تحت مسمى أدب الرحلات،
وإنما كان يظهر أحيانا تحت خانة كتب التاريخ أو الجغرافيا أو السيرة الذاتية أو
كتب الاعتراف أو أدب الاعتراف.. وهكذا فإن هذه التسمية «أدب الرحلات» تسمية وليدة
هذا العصر وما شهده من دراسات ومصطلحات وتقسيمات لفنون وألوان المعرفة الأدبية.
وعلى رغم هذا فإن المشكلة فيما يطلق عليه أدب الرحلات لاتزال قائمة من حيث عدم
وجود تعريف دقيق لهذا الفن يؤطر حدوده.
وبناء على مشكلة غياب تعريف محدد وواضح لأدب الرحلات يقول المحاضر:
ان عدم وجود حدود واضحة ودقيقة لما يطلق عليه أدب الرحلات أدى إلى تصنيف الكثير من
المؤلفات التي يمكن أن نطلق عليها كتب السيرة الذاتية أو كتب أهداف العلمية
البحتة، ضمن دائرة أدب الرحلات. ومن هذه المؤلفات كتب سرد فيها أصحابها تجاربهم
ومشاهدهم وعلاقاتهم أثناء عملهم خارج بلدانهم كدبلوماسيين أو طلبة مبتعثين، أو
أثناء إقامتهم القصيرة في البلدان الأجنبية من أجل إتمام مهمات محددة مثل العمل
الإغاثي أو الدعوي. هذه الكتب وإن احتوت على وصف العادات والسلوكيات والمعالم
والظواهر الاجتماعية والاقتصادية والبيئية فإنها تفتقد روح الرصد والمتابعة
الدقيقة والتفسير السليم، وتفتقد تفرغ الكاتب لتلك المهمة، والحيادية إزاء ما يراد
تفسيره وتحليله، وخير مثال على ما نقول ان من ألف كتابا من الدبلوماسيين عن مشاهده
في البلاد التي خدم فيها، اضطر الى أن يجامل أو يقفز أو يزين حديثه بتبريرات غير
مقنعة، بفعل حساسية مركزه أو خوفا على علاقات بلاده مع الدولة التي تحدث عن شعوبها
ومعالمها وظواهرها الاجتماعية. والدليل الآخر نستقيه من الكتب التي ألفها رموز
الدعوة الإسلامية وتصنف زورا ضمن أدب الرحلات، ففي مثل كتب هؤلاء لا نجد نفسا يدل
على ان صاحبه ألم بتفاصيل ما يتحدث عنه كافة، أو قلب ما رآه على جميع الأوجه، أو
تفرغ لمهمة الرصد والكشف، فلا وقت أسعفه لذلك، ولا كانت مهمته في الأساس استكشافية
أو رصدية للشعوب والبلدان. وبعض هؤلاء كتبوا عن الآخر انطلاقا من موقف عقائدي
مسبق، ومن نظرة لأنفسهم وبلدانهم وشعوبهم وقيمهم على أنها الأصح والأفضل، فوقعوا
بذلك في المحظور العظيم في هذا الزمن الإعلامي المتميز أي التعميم الظالم والسخرية
من قيم الآخر.
إلى ذلك استعرض المدني أبرز وأهم المؤلفات في هذا المجال وفقاؤ
لتموضعها التاريخي مقترحا تقسيما أو تحقيبا تاريخيا يتناول من خلاله المؤلفات
البارزة، اذ يقول لابد من تقسيم أدب الرحلات إلى ثلاثة أقسام تجاوزا على النحو
الآتي: العصر القديم والوسيط والحديث. حفل العصر القديم من القرن التاسع الميلادي
بظهور عدد كبير من المؤلفات الرحلية في ظاهرة عكست وقتها شغف العرب بمعرفة الآخر،
وكيفية إدارته لمختلف مناحي الحياة، ومن أهم هذه المؤلفات «فتوح البلدان»
للبلاذري، «البلدان» لليعقوبي، «مروج الذهب» للمسعودي، «المسالك والممالك» لابن
حوقل، «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للمقدسي، «الأعلاق النفسية» لابن رستة،
«نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للإدريسي، «معجم البلدان» لياقوت الحموي، «رحلة
ابن جبير» لابن جبير، «صور الأقاليم» للبلخي، «كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ،
و«صور الأقاليم» و«مسالك الممالك» للاصطخري وغير ذلك، ومن ضمن هذا الكثير هناك
إسهامات خليجية تتمثل فيما دونه سليمان التاجر في حدود سنة 851 للميلاد من معلومات
مهمة عن رحلاته للقرى والسواحل الهندية للتجارة، وما شاهده هناك من ظواهر وعادات
اجتماعية غريبة. وتتمثل الإسهامات الخليجية في كتاب ألفه بزر بن شهريار تحت عنوان
«عجائب الهند» وفيه قصص ووصف للطرق البحرية المؤدية الى الهند وما يمارس على ظهور
السفن المتجهة من الخليج إلى هناك. واتفق مع الذين يقولون ان أحد أفضل المؤلفات
الرحلية في هذه الحقبة هو كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو
مرذولة» لأبي الريحان البيروني، وليس السبب تصيده لمعرفة قارة معروفة بتعقيداتها
الشديدة، وغرائبها وعجائبها اللامتناهية، وإنما لأنه كتب وحلل وفسر ما رآه بنظرة
العالم والفيلسوف والرياضي والفلكي والجغرافي والمؤلف، فتطرق بذلك إلى ما لم يتطرق
إليه الآخرون. وإنما الأشهر في عالم الرحلات في هذه الحقبة وربما في كل الحقب هو
محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم المولود في طنجة، والمنتمي إلى اللواتية،
والملقب بابي عبدالله شمس الدين والمعروف بابن بطوطة، صاحب كتاب «تحفة النظار في غرائب
الأمصار وعجائب الأسفار». ويحق لابن بطوطة أن ينال الشهرة، وأن يلقب بالمعجزة،
وأمير الرحالة، ورحالة العصر، ورحال هذه الملة وغيرها من الألقاب، على رغم أنه لم
يكتب بنفسه عن رحلاته، وإنما أملاها في وقت لاحق على محمد الكلبي، كاتب السلطان
أبي عنان المريني بأمر من الأخير. ويكمن سبب شهرته، في أن ابن بطوطة فعل ما لم
يفعله رحالة ذلك الزمن لا من قبله، وربما لا من بعده، وقد قطع مسافة قدرت بـأكثر
من 120 ألف كيلومتر أو ثلاثة أمثال محيط الكرة الأرضية، واستغرقت رحلاته مدة
تجاوزت 24 سنة، واخترق الأرض بالطول وبالعرض.
ويضيف: وفي العصر الوسيط أو الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر
الميلادي وصولا إلى بدايات القرن العشرين ظهرت مخطوطات ومؤلفات كثيرة يمكن إدراجها
ضمن أدب الرحلات، لما فيها من وصف دقيق لأحوال بعض البلدان والشعوب. ولكن على خلاف
العصر السابق نجد أن أبرز الرحالة في العصر الوسيط من العرب المسيحيين، كما أن
أبرز ما كتب كان عن بلاد الغرب، وليس عن بلاد الشرق. وأبرز مؤلفين في هذه الحقبة
هما المخطوطة التي كتبها الرحالة إلياس بن القسيس حنا الموصلي الكلداني في حدود
سنة 1817 عن سياحته في بلدان أميركا الجنوبية، وأميركا الوسطى. هذه المخطوطة وجدت
في حلب سنة 1905م، وقد انتهى الآن الشاعر السوري نوري الجراح من تحقيق هذه
المخطوطة لنشرها ضمن مشروع كبير يدعى ارتياد الآفاق لجمع تراث العرب في أدب
الرحلات، بتمويل إماراتي. والكتاب الآخر هو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»
لرفاعة رافع الطهطاوي والذي حظي باهتمام ودراسات نقدية كثيرة، وأثار زوبعة من
القضايا الفكرية تمحورت حول علاقة العرب والمسلمين بالحضارة الغربية، ناهيك عن أن
هذا الكتاب أدى دورا رياديا على المستوى الفني كنتيجة لتحريره اللغة المستخدمة في
الوصف من أغلال وقيود المحسنات البديعية من جناس وطباق وسجع.
ويقول أما في العصر الحديث الذي نعني به القرن العشرين، فقد ظهرت فيه
الكثير من المؤلفات الرحلية، واختلفت عن سابقاتها لجهة الأسلوب الأدبي، ونوعية
المعلومة، المتأثرة بالمدارس اللغوية والفنية الحديثة، وبما طرأ على مجمل حياة
الشعوب والبلدان، ولاسيما في حقول المواصلات والاتصالات، وأشير في هذا السياق إلى
كتابين الأول صدر في النصف الأول من القرن العشرين، وكتاب رحلات من النصف الثاني
من القرن العشرين على سبيل المثال. وأهم ما كتب في النصف الأول هو كتاب «ملوك
العرب» لأمين الريحاني عن رحلاته الشاقة والخطيرة في الجزيرة العربية، وفي هذا
المؤلف القيم نجد وصفا لبلدان المنطقة، ولأنماط حياة شعوبها، ومقوماتها
الاقتصادية، ومعلومات عن أسرها الحاكمة، وكيفية مزاولتهم لسلطاتهم، وعلاقتهم مع
شعوبهم، ناهيك عن الكثير من الطرائف التي سمعها في تجواله، أو المفارقات التي كان
أحد أبطالها.
أما الكتاب الآخر، فهو كتاب أنيس منصور «حول العالم في 200 يوم». كما
شهد القرن العشرين ظهور عدد من المؤلفات الرحلية الخليجية، وتحديدا في المملكة
العربية السعودية التي لاتزال تتصدر هذا المجال بين شقيقاتها الخليجيات، والتي
شهدت ساحتها الأدبية والصحافية مناقشات حامية عن هذا اللون من ألوان الأدب. وكانت
البدايات الجادة في هذا المجال مع كتب حمد الجاسر، وإن كان البعض يعد ما كتبه حمد
الجاسر من كتب البحث العلمي في الأنساب، وأسماء المواقع، وبالتالي من الإجحاف بهذه
الكتب أن تدرج ضمن أدب الرحلات. وبعد تجربة الجاسر هناك قائمة طويلة من الأسماء
مثل كتاب علي حسن فدعق «أيام في الشرق الأقصى» وكتاب أحمد عبدالغفور عطار «عشرون
يوما في الصين الوطنية»، وكتاب محمد عمر توفيق «من ذكريات مسافر»، وكتاب عبدالكريم
الجيهمان «ذكريات باريس»، وكتاب عبدالعزيز الرفاعي «خمسة أيام في ماليزيا»، وكتاب
عبدالله خميس «جولة في غرب أميركا»، وكتاب خليل الفزيع «أيام في بلاد العم سام»
وكتاب غازي القصيبي «العودة سائحا في كاليفورنيا» وهو كتاب ممتع .
هذا الموضوع قابل للنسخ .. يمكنك نسخ أى رابط من تلك الروابط الثلاثة ولصقه بصفحاتك على المواقع الإجتماعية أو بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code: