الأستاذ ياسر الدهيسي ، يكتب : معايير الظهور الإعلامي .. من حرية التعبير إلى تبرير الإرهاب ..
الأستاذ ياسر الدهيسي ، يكتب : معايير الظهور الإعلامي .. من حرية التعبير إلى تبرير الإرهاب ..
الوطن العربى اليومية - القاهرة ..
شكل العام الميلادي قبل الماضي ذروة الحضور الإعلامي لـ"منظري الإرهاب" على الشاشات التلفزيونية العربية. كان ذلك أحد سياقات "الربيع العربي" الأكثر فجاجة، وأكثرها حاجة إلى مراجعة جادة لتحديد النظريات والمعايير الإعلامية التي تتبعها هذه الوسائل، لتقرر على أثرها استضافة الضيف وفتح الهواء له من عدمه. قبل أقل من شهرين، عندما تناقلت وسائل الإعلام حادثة اقتحام المستشفى العسكري باليمن التي أودت بحياة 56 شخصا معظمهم من المدنيين والعاملين في المستشفى؛ شكلت حالة من الخوف والهلع من عودة موجات إرهاب جديدة على خلفية الأوضاع غير المستقرة أمنياً التي تشهدها المنطقة. الحادثة التي التقطتها كاميرات المراقبة وبثها التلفزيون اليمني أظهرت بشاعة التنفيذ وقتل الأبرياء بدم بارد من قبل تنظيم "القاعدة". كما أعادت فتح ملف الأداء الأخلاقي الإعلامي التلفزيوني لبعض هذه الوسائل. محور النقاش والجدل حول هذا الأداء قاده مقطع من لقاء تلفزيوني على قناة (وصال) سبق الحادثة بأيام. المقطع حمل تهديدا واضحا ومباشرا، حين قال مقدم البرنامج معلقا على اختطاف جرحى من أهالي دماج أو (طلاب علم) على حد وصفه كانوا داخل المستشفى: "سنجيش الجيوش ونسير القبائل على هذا المستشفى ليأخذوا بثأر إخواننا من هناك نقولها - بإذن الله - ونحن فاعلون ونثق فيما نقول بإذن الله تعالى".
هذه الحادثة رغم رفضها والاعتراض عليها، إلا أنه يمكن فهمها في إطار السياسة التحريرية للقناة التي يضعها متخصصون في خانة أقصى اليمين الديني المتطرف. مثل هذه "الأجندة" للقنوات - وهي عالمية الطابع - تتيح فرصة الظهور لمختلفين معها أيدلوجيا أو سياسيا، إلا أن هذا الظهور لا يعدو كونه كمينا أو فرصة لتشويه الآخر، ومثال ذلك ما حدث على القناة نفسها حين انتهت مناظرة تلفزيونيه بين الدكتور إبراهيم الفارس وحسن فرحان المالكي بطرد الأخير من الاستديو على الهواء مباشرة. ويرى صالح شراز الغامدي أستاذ الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز بأن أغلبية القنوات "الدينية" بعيدة كل البعد عن المعايير المهنية للإعلام، ويرجع ذلك- في نظره- إلى عدة أسباب أهمها "أن القائمين على تلك القنوات ليسوا متخصصين، ويديرون هذه الوسائل الجماهيرية المؤثرة بطريقة عبثية بعيدة كل البعد عن شرف العمل الإعلامي، كقناة (وصال) وغيرها من القنوات التي امتهنت التحريض وسلكت مسلكاً شائكاً نحو الغلو والتطرف" ويضيف: "الغرابة لا تكمن في الطريقة التي تدار بها هذه القنوات بقدر ما تكمن في عدم وجود قوانين واضحة وصارمة من شأنها ردع هذه القنوات وتنظيم عملها".
في المقابل وفي الوقت الذي لم تجف فيه دماء القتلى بعد، كانت معرفات لشخصيات شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تستبق الأحداث وتدفع ببراءة تنظيم القاعدة ومحاولة إلصاق التهمة بجماعات متطرفة أو جهات استخباراتية تارة، أو تتجاهل الحدث كاملا تارة أخرى. تنظيم "القاعدة" في اليمن اعترف لاحقا بتنفيذ العملية واستعداده لدفع الدية الشرعية نتيجة قتله الأبرياء ــ من هذه الشخصيات على سبيل المثال وليس الحصر الناشطان على موقع "تويتر" الدكتور محمد الحضيف والدكتور أحمد بن راشد بن سعيد والدكتور شافي العجمي. حيث كتب الحضيف على حسابه في "تويتر": "حين أرفض إلصاق (تفجير المستشفى) بالقاعدة أو فصيل سني، لا يعني أنني مؤيد لمثل هذا السلوك الإجرامي، لكني أرفض أن أؤجر عقلي لدعاية الاستخبارات". بينما تجاهل بن سعيد أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الملك سعود رغم مداومته على مشاهدة قناة (العربية) التي ينتقدها باستمرار، تجاهل الحادثة تماما حين قال معلقا على أحد متابعيه: "أنا لم أسمع عنها، وحتى لو سمعت، فلست ملزما بالتعليق..". أما العجمي فكتب على حسابه في "تويتر" معلقا على الحادثة: "الذي قتل الأبرياء في مستشفى العرضي هو الذي قتلهم في سورية والذي قتلهم في مصر والذي قتلهم في العراق والذي قتلهم في أفغانستان. إنهم الطغاة". العجمي أيضا كان قد كتب قبل الحادثة بأيام: "اليمن تحتضن الجهاد والمجاهدين وتسير على خطى سورية لنفي الخبث عنها وتتقدم لساحة المواجهة، وإذا سلموا من التدخلات الحكومية فسينالون مرادهم". ويرى محمد مهنا المتخصص في الإعلام الجديد وأستاذ الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز في حديثه لـ "الاقتصادية السياسية" أن مواقع مثل "تويتر" تستخدم من المتطرفين بطريقتين، إما عبر تكوين شبكة أو شبكات سرية تمكنهم من التواصل بصورة احترافية سهلة ومن الصعب تتبعها، ويكون الغرض منها على سبيل المثال تنفيذ عمليات وإما إضافة عناصر جديدة للشبكة. وفيما يخص الطريقة الثانية يضيف: "بما أن العامل الرئيس لنجاح هذه الفئات هو السرية عبر الإنترنت فإن مواقع مثل فيس بوك وتويتر ليست بالمواقع التي تؤدي لهم الغرض لتكوين هذه الشبكات، ولذلك استخدامهم لهذه المواقع إنما هو فقط لجس النبض ونشر ما عندهم من قشور لغرض معرفة مدى انتشارهم وتقبل الناس لهم". هذه الآراء التي يحملها متطرفون لم تكن قنوات "التواصل الاجتماعي" الحاضن الوحيد لها، بل إن قنوات تلفزيونية شهيرة فتحت الهواء لها وأعطت حامليها فرصة مخاطبة الرأي العام. شافي العجمي مرة أخرى وهو ناشط في ملف جمع التبرعات لسورية، ظهر على شاشة "روتانا" في برنامج (في الصميم) في رمضان الماضي، وقال إنه لا يفرق بين المجاهدين في سورية- رغم وجود جماعات تعلن الولاء لتنظيم "القاعدة" مثل جبهة النصرة- حيث ذكر في إجابة على سؤال لمقدم البرنامج عبد الله المديفر (في الصميم)، عن المال الذي يجمعه للمقاتلين في سورية، وما إذا كان يصل لجماعات متطرفة كجبهة النصرة. قال: "الآن في كل محافظة صارت فيها غرف عمليات، غرف العمليات هذه في كل محافظة لا تفرق بين جبهة النصرة وبين فلان وفلان، الكتائب التي في داخل سورية يقاتلون جنبا إلى جنب، أراد النظام الدولي أن يشرخ بين الفصائل ويجعل كل فصيل يقاتل وحده لكن ما استطاع، هذه غرف العمليات موجود فيها جبهة النصرة موجود فيها أحرار الشام..". والمتتبع للأحداث في سورية يعرف أن "جبهة النصرة" كانت قد أعلنت في العاشر من نيسان (أبريل) العام الماضي في تسجيل صوتي لقائدها "أبو محمد الجولاني" وبثته وسائل الإعلام أنها تعلن انضمامها وولاءها لتنظيم القاعدة. الجولاني نفسه استضافته قناة (الجزيرة) أخيراً في مشهد يعيد للأذهان الحملة التي قادتها القناة لتحسين صورة أسامة بن لادن إبان حرب أفغانستان. وكانت "الاقتصادية السياسية" قد اتصلت بعبد الله المديفر مقدم البرنامج وسألته عن المعايير التي يقيِم بها ضيوفه، والطريقة التي يفرق بها كمقدم برامج حوارية بين حرية التعبير وبين الرأي المتطرف والتنظير للإرهاب؟ إلا أنه اعتذر عن الحديث والمشاركة في هذا الموضوع تحديداً. الناشط الآخر في حملة جمع التبرعات لسورية حجاج العجمي، الذي يعرف بنفسه على أنه داعية إلى الله. تمت استضافته في رمضان الماضي على شاشة قناة المجد في برنامج (140) الذي يقدمه الدكتور فهد السنيدي، في اللقاء نفسه قال العجمي إنه لا يتحدث عن تفاصيل الجهاد داخل سورية، ولا من الذي يقود المعركة، ولا من الذي ينقل إليه حجاج الدعم، واستطرد حتى قال: "أما من ناحية الدعم فهذا يضرني من ناحية أمنية" وفي سؤال للسنيدي عما إذا كان يتوقع أن الحكومات لا تعرف من يدعم؟ أجاب "لا، أتحداها، والله لا يعرفون حتى كيف طريقة إيصال الأموال. الأمة كلها تعمل معنا - بفضل الله". هذا التحدي العلني من حجاج يقودنا لمحاولة معرفة من يذهب ليقابل في سورية، وبالتالي معرفة الجهات والتنظيمات التي تحصل على الدعم والتبرعات التي يجمعها؟ تجيب عن هذا السؤال جولة في حساب حجاج على "تويتر". إذ يعيد التغريد لصورة أضافها "سلطان بن عيسى العطوي" وعلق عليها: "من عباد الله أناس مباركون يحملون هم أمتهم بشرف وكرامة وأحسب الشيخ حجاج العجمي منهم! سعدنا بك" ولمن لا يعرف العطوي؛ فهو القيادي الشرعي في جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، والجهة الشرعية هي بمثابة مجمع الإفتاء الخاص بالتنظيم الموضوع على قوائم الإرهاب، ويمكن فهم الدور الذي يلعبه العطوي من خلال ما قاله الموقوف خالد الفراج في لقائه مع برنامج الثامنة مع داود على قناة (إم بي سي) حين اعترض واستنكر قتل الأبرياء خلال تفجير المحيا في الرياض. إن استضافة مثل هذه الشخصيات في قنوات تلفزيونية وإعطاءها فرصة الظهور للرأي العام تطرح سؤالا عن الكيفية التي يفرق الإعلامي بها بين حرية التعبير والتطرف للرأي والتنظير للإرهاب؟ يعلق الدكتور فهد السنيدي بأن الشعوب تعاني كبتا للحريات وسيادة "الرؤية الأحادية" ما نتج عنه بحث عن منافذ للتعبير إلى أن ظهرت ثورة الاتصال واستغلال الغرب لها بدعوى حرية التعبير، ويضيف السنيدي: "أحب أن أؤكد ضرورة المحافظة على وحدة وترابط المجتمع في ظل الممارسة الكاملة لحرية الرأي والتعبير عنه؛ فوحدة الأمة واجب يفرضه الإسلام وضرورة يحتمها الواقع على أفراد هذا المجتمع وحق إبداء الرأي هو ضرورة أيضًا، بل يصبح واجباً في مواضع معينة تحددها حالات خاصة". ولكن هل استضافة شخصية معروفة بتبريرها ودفاعها عن تنظيم متطرف موالٍ للقاعدة من باب حرية التعبير والحفاظ على (وحدة الأمة) كما ذكر؟ يجيب السنيدي: "استضافة أي شخص تخضع عندنا لمعايير معروفة ومنضبطة لا يتحكم فيها المذيع". من جهته، يرى صالح شراز الغامدي أستاذ الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز في حديثه لـ "الاقتصادية السياسية" أن استضافة بعض الشخصيات المتطرفة أو ممارسة التحريض علناً في وسائل الإعلام جريمة بكل المقاييس والمعايير، ويزيد: "هذا ما تنص عليه القوانين في العالم أجمع، إن فتح الطريق أمام شخص متطرف في وسيلة إعلامية نافذة تعني تمكينه من الترويج لأفكاره والتأثير على أكبر قدر ممكن من المتابعين، ولا مجال هنا للحديث عن حرية التعبير فحرية التعبير لا تعني منح الفرصة لأشخاص لا يقيمون وزناً لحياة الآخرين، بل يحاولون بكل ما أوتوا من قوة إشاعة الفوضى، وإثارة الرأي العام". ويطالب الغامدي وزارة الإعلام بسن قوانين واضحة ورادعة للحد من هذه التجاوزات في بعض وسائل الإعلام الدينية، وأضاف: "على وزارة الإعلام أن تلزم جميع القنوات الفضائية بتوظيف متخصصين في مجال الإعلام، فالإعلام مهنة وليس وظيفة". إن الحكم على مهنية أو لا مهنية هذه السلوكيات في الأداء الإعلامي يتم على أساس النظريات الإعلامية. إحدى هذه النظريات هي نظرية حارس البوابة الإعلامية لعالم النفس الاجتماعي (كورت ليفين)، والمتخصصون في الإعلام يعرفون هذه النظرية بأنها عملية (الفلترة) للمعلومات والآراء والشخصيات التي تظهر للرأي العام. ورغم الملاحظات التي يراها مختصون أكثر حداثة، إلا أن الأكثر مسؤولية وأخلاقية تجاه هذا التوجه الإعلامي ظل يطور نظرياته "المهنية" باستمرار. كما أن الانطباعات التي تتركها المقابلات التلفزيونية يفترض، بحسب المختصين، أن يستوعبها أو يدركها مقدم البرنامج وفريق الإعداد مسبقا، ففي حالة استضافة مدمن مخدرات أو مغتصب- على سبيل المثال- لن تخرج في الغالب الانطباعات التي يسعى "حارس البوابة" لتركها في الجمهور إلى أن تؤدي إلى خلق حالة من الوعي بخطورة القتل أو التعاطي، ولا تندرج مثل هذه اللقاءات مع مثل هذه الشخصيات تحت ذريعة حرية التعبير عن الرأي، حيث يعرف المتخصصون في الإعلام أن القضايا ذات البعد الأمني لا يفترض أن تندرج تحت هذه الادعاءات، كما أن الآراء والتوجهات التي تقود إلى التكفير أو القتل أو الفوضى ليست رأيا، بل تحريضاً صريحاً.
هذا الموضوع قابل للنسخ .. يمكنك نسخ أى رابط من تلك الروابط الثلاثة ولصقه بصفحاتك على المواقع الإجتماعية أو بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code: