عائشة المعاصري ، مثَال حيّ لمغربيّة تطوّرت بعصاميّة شمال إيطاليا ..
الوطن العربى اليومية - الرباط : هسبريس ..
توسّطت المغربيّة عائشة المعاصري تجربة هجرة فريدة من نوعها بشمال إيطاليا وهي تطور إمكانياتها البسيطة من العمل بمجهوداتها العضليّة إلى الانخراط بمسار مهني مبني على التواصل والتأطير الفكري، باصمة على تطور لافت لا يمكن أن تبصم عليه غير امرأة مكافحة آمنت بأن التغيير لا يمكن أن يأتي عبر الصدفة وأن ما يعيشه الإنسان ليس قدرا محتّما بالمطلق.
بـ"دَارجَة مغربيّة" لم تنل منها العقود المارقَة، وبحرقَة تواكبها دموع ضمن عينيها المحمرّتين، عادت المعاصري إلى ستينيات القرن الماضي كي تعيد استحضار سيناريو حياتها، خلال لقاء لها مع هسبريس، وتعدّد كبريات المحطّأت المؤثرة التي جعلت شخصيتها تتشكّل تدرجيا لتجعل منها ما هي عليه الحين.. راجية بأن يكون تواصلها حافزا للغير من أجل التشبث بالأمل لنيل مستقبل أفضل.
في خدمة الغير
تنتمي عائشة المعاصري لمدينة الدّار البيضاء، وبإحدى أحيائها المتواضعة شرعت في التمدرس وسط أسرة بسيطة من 8 إخوة، هي أكبرهم.. وتبتسم عائشة حين تأتي على ذلك اسم المغرب، لتقول إنّ بلدها الأمّ كان ولا يزال أفضل أرض بالنسبة لها.. مردفة أنّ ذلك يعود لمزاوجته بين خيرة الناس وروعة الطبيعة.
حين اشتدّ المرض على أبيها، وذلك قبل انتقاله إلى دار البقاء، طلب من ابنته الكبرى أن تغادر مقاعد الدراسة وتقصد سوق العمل لتوفر حاجيات أمّها و7 من أشقائها وشقيقاتها.. فما كان من عائشة إلاّ أن لبّت رغبة والدها وهي تقطع دراستها عند السنة الاولى من المرحلة الثانويّة.
"هدفت إلى منح أقاربي فرصا تقوّي حظوظهم المستقبليّة، ورأيت أن أضحيّ بنفسي لأجل ذلك وأنا أشتغل بعدد من المهن دون كلل أو ملل، موفرة المال الذي أجنيه من عرق جبيني لسدّ حاجياتهم الحياتيّة المختلفَة، وتوفقت في ذلك بشكل كبير يشعرني بالارتياح الدّاخلي" تقول المعاصري.
فكّ الرتباط وجواز سفر
تزوّجت عائشة، سنة 1975، ورزقت بابنتها الوحيدة فتيحة بعد عام من ذلك، لكنّ تجربتها الخاصّة في تكوين أسرة لم تلاقي النجاح، لتعمل على إنهاء ارتباطها وتحمل ابنتها معها.. مرجعة تلك النهاية إلى وقوف "متاعب إدمان الزوج" حجر عثرة أمام حصولها على حياة سليمة خالية من المتاعب القانونية والنفسيّة.
واستمرّت المعاصري في العمل بالبيوت لتوفير المال الذي تستلزمه نشأة ابنتها، إلى أن حصلت على فرصة للعمل بالخارج، بناء على اتصالات مع أقارب كائنين بإيطاليا.. ولزمها التوجّه صوب مصالح عمالة الدار البيضاء لاستخراج جواز سفر يمكّنها من قصد الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط.
"لم يكن نيل جواز السفر يسيرا وقتها بالمغرب عموما، وبالدّار البيضاء على وجه خاص.. وأذكر أنّي اصطففت إلى جوار الراغبين في تقديم طلبات لاستخراج هذه الوثيقة من عمالة العاصمة الاقتصادية ، وكان الحظ بجانبي حين نلت جواز السفر بناء على قرار من مسؤولين إداريين يشاؤون منحه للبعض دون البعض الآخر" تورد عائشة لمعاصري لهسبريس.
من صقليّة إلى ترِيفِيزُو
تورد ذات المغربيّة ضمن لحظة نوستالجيا: "جمعت حقيبتي وقصدت إيطاليا، لكنّ وصولي إلى مرادي لم يكن سهلا، وأعتبر أن مستهلّ تجربتي ضمن الغربة كان ككُرة تتدحرج وسط أرضيّة وعرة في بادئ الأمر.. ذلك تمّ عام 1986 حين همّ تنقلي التوجّه صوب جزيرة صقليّة، إذ كنت قد اتفقت على الاشتغال كمربية للأطفال لدى أسرة هناك.. وبفعل عدم إتقاني للغة الإيطاليّة، وكذا فقداني لمعالم الطريق التي كانت تستلزم استعانتي برحلتين جويتين للوصول إلى جزيرة، لم أتمكّن من نيل ما صبوت إليه".
وضمن مسار بديل تنقلت المعاصري صوب مدينة تريفيزُو، بشمال إيطاليا، من أجل الالتحاق بقريب من زوج أختها، مفلحة في نيل تعاونه لأدل الظفر بفرصة عمل استهلّت منها مسار الكدّ وسط الهجرة التي انخرطت فيها وحيدة.. وتعلّق على تلك المرحلة بالقول: "كان ذلك استهلالا لمسار اغتراب ابتغيت، ببدايته، التمكن من ضبط التواصل بالإيطاليّة إلى جوار نيل فرصة عمل.. فكان أن حققت بسهولة هدفي الثاني وأنا أتموقع وسط سوق شغل إيطالي يستقبل النشطاء المهنيّين، حينها، بوفرة في الطلب على السواعد، عكس ما هو المعطَى اليوم".
أول مسكن لعائشة المعاصري ببيئتها الجديدة كان وسط وضعية صعبة للغاية، ذلك أنّها استقرّت بغرفة واحدة لا تتوفر على مرفق صحي ولا تزويد بالماء.. كما عملت على الاستعانة، ضمن تنقلاتها، بدراجة هوائية مفتقرة للمكابح والإنارة التي تمكنها من الاستعمال الليلي.. بينما واظبت المعاصري، في أول التزاماتها المهنيّة على قصدت عدد من المنازل لخدمة أصحابها بإعانتهم على أعمال البيوت، مشتغلة طيلة 14 ساعة كلّ يوم وهي تمكث خارج مسكنها من السادسة صباحا حتى الثامنة مساء.
استقرار ودراسة
"كنت أعمل على رفع دعواتي لله، حين أدائي لصلواتي، كي يمكّنني من بيئة اشتغال أيسر نسبيا.. إذ حلمت بأن التحق ببيت أسرة واحدة تكفيني عن التنقل بين بيوت عدّة، وهذا لإعفائي من التنقلات المتعبة.. فما كان إلّا أن تيسّرت الأمور وأنا أقبِل على أسرة ميسورة أسكنتني بمنزلها بعد 3 أشهر من التحاقي بإيطاليا، وقد احتضنتني لـ3 سنوات" تقول عائشة.
وعن ذات المحطّة تزيد: "اشتغلت ما بين البيت وفضاءات شركة مملوكة لنفس الأسرة التي طلبت خدماتي، وقد قضيت السنوات الثلاث كطير وسط قفص، حتّى أني لم أكن أعرف ما يجري خارج الفضائين.. كما أن تواصلي مع أفراد أسرتي، خلال تلك المرحلة، كان ضعيفا".
أفلحت المعاصري في العودة إلى مقاعد التحصيل الدراسي وهي تستثمر تشجيعات مشغليها في المزاوجة بين اشغالها النهارية ودراسة ليليّة، متمكنة بذلك من تحسين مداركها اللغويّة وإلمامها بالثقافة العامّة، زيادة على تكوين في الثقافات الأجنبية الوافدة على المجتمع الإيطالي، بالإضافة لتحسين مهارات التواصل.
وشاركت عائشة فصول التحصيل مع ابنتها التي التحقت بها بناء على قبول السلطات الإيطالية لطلب تجمع عائلي تقدمت به، كما حسنت ظروف عيشها وهي تكتري بيتا بسيطا ضمّها مع فلذة كبدها.. وتعلق على ذلك وهي تقول لهسبريس: "أفضَى إصراري تجاه تحسين أوضاعي إلى تحقيق ذلك بشكل تدريجي، ولا أنكر أني استفدت من إنسانية المجتمع الإيطالي الذي مد لي يد العون بشكل أثر في بشكل كبير، خاصة ما لقيته من مساعدات همّت تطوير مستواي الدراسيّ".
كما زادت المعاصري: "أفلحت في اقتناء سيارة بسيطة كانت أول عربة أحوزها، وقد أفرحتني وأنا أقودها برخصة حصلت عليها عقب اجتياز امتحان سياقة خلال زيارة لي لبلدي المغرب، كما أنّ التطوّر همّ ابنتي حين مكنتها الأسرة التي أشتغل ببيتها من فرصة عمل داخل الشركَة التي تملكها، كما أن صغيرتي تزوجت، وقد افترقتنا بعدما رحلت للعيش وسط مدينة بولونيا".
وساطة بين الثقافات
بعد تحصلها على دبلوم في التواصل الثقافي تحركت عائشة المعاصري لتحسن وضعها المهني أنهَى مع التزام الشغل الذي كانت منخرطة به.. ذلك أنّها قدّمت شكرها الكبير للأسرة التي احتضنتها بكرمها في تريفيزُو، وانسحبت من العمل ببيتها عقب إبداء الامتنان ونيلها تشجيعا من أفراد ذات البيت على المضي بنجاح ضمن خيارها الجديد.
تنخرط المعاصري، حاليا، ضمن شركة وجمعية تقدمان خدماتها للمهاجرين الوافدين على المدينة الإيطالية التي تستقر بها، وذلك بتركيز على تيسير التواصل لاستيفاء الخدمات الإدارية التي تجد هذه الشريحَة عائقا أمام اللجوء إليها.. وتقول عائشة بخصوص ذلك: "بدأت اشتغالي الجديد على مستوى المرافق الطبية وأنا أقدّم إرشادات تهمّ خدمات الأمومة للمهاجرات، حيث أعرفهنّ على مساطر الاستفادة من مرافق التوليد ومواعيد التلقيحات لمواليدهنّ، زيادة على ملء الاستمارات وتوفير الإرشادات".
"أركّز ضمن مهنتي الحالية على الثقافة المغربيّة والثقافات المغاربيّة، وقد مطّط تدخلي ليطال قضايا الدراسة والتواصل ما بين جيل الهجرة الأولى ونسله الذي ولد فوق التراب الإيطالي، محاولة مدّ جسور الحوار بين الطرفين حين بروز إشكالات بينهما.. وهو أداء يروقني وأجد فيه ذاتي.. كما أن السعادة تغمرني حين أوفق بمهامي" تضيف ذات المغربيّة الإيطاليّة.
ارتياح للتطوّر
تبدي عائشة المعاصري ارتياحها التّام للتطور الذي بصم حياتها، مرجعة ذلك إلى مجهودها الذاتي الذي ألف رفع التحدّيات، زيادة على التوفيق الرباني الذي تعتبره غير مفارق لكل من أبدَى تشبثا بأحلامه إلى أبعد مدى ممكن.. وتزيد: "إمكاناتي الذاتية بسيطة، لكنّ توفيقي مكّن من الرفع منها بما فيه الخير لي ولأقربائي ولبيئتي.. فقد افلحت في اقتناء منزل هو بملكيتي، كما ساعدت عددا من إخوتي في الالتحاق بالديار الإيطاليّة، وشرعت أعدّ لتقاعد مريح ينقلني من جديد صوب المغرب، وإلى جوار كلّ هذا أحسّ بكوني نافعة ضمن المجتمع الذي احتضنني بكل سخاء وأريحيّة".
ذات المغربيّة، وهي التي تحصّلت على الجنسية الإيطالية عقب طول مقام بالبلد قارب 3 عقود، تجاهر بكون حلمين اثنين ما زالا يغتمرنها؛ أولهما يقترن بزيارة لبيت الله الحرام ضمن إحدى مواسم الحج المقبلة، بينما الثاني يقترن بوطنها المغرب الذي تود أن تعاود الالتحاق به لأجرأة مشروع يمكنها من الاستقرار على ترابه.. وتسترسل ضمن حديثها لهسبريس: "رجوعي صوب المغرب سيكون بمجرّد بلوغي سن التقاعد".
وترى عائشة المعاصري أن الحاملين لأحلام الهجرة، من بين شباب المغرب وشاباته، ينبغي لهم أن يتحلوا بالإيمان تجاه قدراتهم في تحدّي الصعاب، خاصة وأن المتغيرات الاقتصادية جعلت أسواق العمل تنقبض بشكل كبير سواء بإيطاليا او بعموم أوروبا، وتضيف في هذا الإطار: "كل شيء يعتمد على روح التحدّي وعدم التوقف عن الحلم المرفوق بالعمل المتواصل، ومن أرَاد شيءً بصدق لن يخيب أبدا في نيله".
هذا الموضوع قابل للنسخ .. يمكنك نسخ أى رابط من تلك الروابط الثلاثة ولصقه بصفحاتك على المواقع الإجتماعية أو بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code: