« آركيولوجيا » الثورة عند حنة أرندت
« آركيولوجيا » الثورة عند حنة أرندت
حنة أرندت |
الوطن العربى اليومية - الاقتصادية من الرياض
تعد حنة آرندت (1906 - 1975) واحدة من العلامات الفارقة في مسيرة الفلاسفة المعاصرين، ليس لأنها من الأسماء الكبيرة في النظرية السياسية فحسب، بل لأن حياتها ونضالها العملي كان قريناً لحويتها الفكرية والفلسفية حتى وصفها أحد النقاد المؤرخين لها بقوله "حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية"، كما أنها عملت كأستاذة للنظرية السياسية في جامعات عريقة مثل كولومبيا وكاليفورنيا وبيرنستون وتعود جذورها إلى عائلة علمانية من يهود ألمانيا قطنت مدينة ليندن، وكان وصول النازيين بما دشنوه من عهد شمولي راديكالي محطة مركزية في حياة "حنة" دفعها للانتقال من النظرية إلى الممارسة عبر الدخول في أتون العمل السياسي الذي توجته باعتقالها 1933 على يد المخابرات النازية، وفي نشأتها كان ارتباطها الفكري والعاطفي بالفيسلوف الألماني مارتن هيدجر مؤثراً في شخصيتها ولاحقاً تتلمذت على الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرج وقدمت فيها أطروحتها للدكتوراه عام 1928. ربما كان كتابها عن "التوتاليتارية" أشهر ما ألفته إلا أن عدداً من النقاد يجزمون بأن "في الثورة" واحد من أهم الكتب التي أسست لمفهوم الثورة وماهيتها وأفكارها وتطبيقاتها من خلال قراءة مختلفة للثورة الفرنسية.
يتكون الكتاب بصفحاته الـ 447 من مقدمة عن الحرب والثورة وستة فصول: معنى الثورة، المسألة الاجتماعية، السعي وراء السعادة، تكوين الحرية، النظام العالمي الجديد، وأخيراً التقليد الثوري وكنزه المفقود وهو أثرى وأهم فصول الكتاب. ينطلق الكتاب من فرضية العلاقة بين العنف والحرب والثورة وما ينتج عن الاختلافات بين المفاهيم الثلاثة على مستوى العلاقات الدولية، كما أنها ترى أن الثورة بما استقر عليها مفهومها هي ظاهرة سياسية معاصرة بكل ما تحمله من حداثة تقتضي إعادة النظر في مفهومها، ومن هنا ذهبت أرندت بعيداً في تحليلها لتشكل أسس الثورات بشكل عام وتحديداً الثورتين الفرنسية والأمريكية. مفهوم الثورة انسدل إلى العلوم السياسية بعد أن كان مصطلحاً فلكياً دشنه العالم الفلكي نيكولاس كوبرنيكوس الذي تنسب له الثورة "الكوبرنيكية" التي أسهمت في قلب الفيزياء الكونية على عقبيها، والثورة بهذا المعنى والجذر اللاتيني تنتسب إلى الحركة الدائرية للنجوم وهي بالتالي تعني أن لا قدرة للإنسان في التأثير عليها بسبب حتميتها وتكررها لكن العلاقة وطيدة في انتقال المفهوم للعلوم السياسية باعتبار أن الثورة هي دائرة كبيرة لتعاقب حكومات قليلة في التاريخ البشر بذات القوة والسلطة. الاستيلاء على الباستيل 13 تموز (يوليو) 1789 في باريس الفرنسية مهد الثورة الحديثة التي شهدت حكاية ستكون لها دلالات عميقة عند حنة أرندت، ذلك أن لويس السادس عشر سمع من مبعوثه ليانكورت عن سقوط الباستيل وهروب السجناء منه وتمرد القوات الملكية الذي تبعه ثورة شعبية كبيرة، هنا قال: يبدو أنه تمرد، فرد عليه ليانكورت: كلا يا صاحب الجلالة .. إنها ثورة! وهنا تتساءل آرندت عن الفارق بين الموقفين، الملك ورسوله الأول يعزز من سلطته فيعود إلى تفسير الظاهرة بالمؤامرة والتمرد، بينما يجيب ليناكورت بما يدل على أن التغيير هذه المرة خارج عن سلطة الملك وجنوده إنها سلطة تلك الدائرة المحتومة الخارجة عن قدرة البشر. لم تكن باريس وفقاً لآرندت إلا عاصمة لكل المدن المتحضرة في العالم بأسره فإن يظهر في ها هذا الحشد من الغاضبين والفقراء يجوبون شوارع باريس في جموع هائجة بلا زمام فهو يدل على أن حدثاً ثورياً قد بدأ، هذا السيل الثوري الهادر تراه حنة هو حركة مضادة لحركة السلطة وحركة مضادة للمزيد من الحريات وهو ما سيشكل لاحقاً عنفاً حتمياً بسبب اندفاعه المتزايد ضد السلطة الذي قد ينقلب على الثوار أنفسهم، ومن هنا يقرأ الكتاب المثل السائر "الثورة تأكل أبناءها". مفهوم "الثورة" القديم كان ينتمي إلى مجالي العصيان والتمرد الذي تحدد سياقهما التاريخي منذ القدم في العصور الوسطى، وحينذاك لم تكن الكلمة تشير إلى تأسيس لواقع جديد من الحرية قدر أنه كان إعادة للمفهوم الدائري للثورة هو أقرب بحسب أرندت تبادل بين النظام والمعارضة على السلطة ينتهي في الغالب باستبدال سلطة مغتصبة بسلطة قانونية. فعل الثورة في حد ذاته مزلل للكيانات السياسية التي تعاني انسدادا بغض النظر عما ستؤول إليه الأوضاع ولذلك النظر إلى الثورة باعتبارها خياراً حالماً ينتهي بسيناريوهات سعيدة هو عدم فهم لماهية الثورة، ولذلك فالثورة الفرنسية هي التي أشعلت العالم وليس الأمريكية ومع ذلك انتهت بشكل مأساوي رغم أنها صنعت تاريخاً نموذجياً للثورة. في الثورة الفرنسية تقف آرندت مع شخصية المحامي الذي لم يكمل ربيعه الـ 36 ماكسمليان روبيسبير المثقف البارع والخطيب المفوه الذي سحر قلوب الفقراء، وكان يرى نفسه واحداً من المنبهرين بفلسفة جان جاك روسو، ولاحقاً حكم هذا الشاب فرنسا بعد أن قتل دانتون، وأعدم الملك لويس السادس عشر، وكانت هذه الصفات كفيلة بأن يتحول إلى أيقونة الحشود، وتولى السلطة مدة ثلاث سنوات ومع ذلك لم تختبر فرنسا أسوأ من سنوات حكمه التي اتسمت بالإرهاب والعنف والقتل والتنكيل وكل صور طغيان الحاكم المستبد الدموي والذي تجسد كما تنقل أرندت في قتل أكثر من ستة آلاف مواطن في شهر ونصف فقط! هذا المحامي الدموي كان محيراً لمؤرخي عصره الذين كانوا يستاءلون عن إيمانه الذي شرعن له قتل الملكيين بهذه الوحشية، لكن حنة آرندت خرجت من أقواس إدانة ثقافته الدينية المتعصبة، لتخرج إلى نتيجة مفادها أن الثورات الأوروبية لم تكن ذات طابع ديني مسيحي. ومن هنا ترى أن العلمانية بما تعنيه من فصل الدين عن السياسة بحثاً عن الحياة المدنية هي أس الثورة، ومن هنا أخذت في البحث عن مرجعية "روبيسبير" لمعرفة كوامن العنف الثوري لديه ولم تجد خيراً من "رسو" وفكرته عن "روح الشعب" التي تعني تحويل الجموع الغاضبة بمنزلة شخص واحد هو حاكمها الفرد، ومن هنا الأمة التي كانت لا يمكن أن تتشخص في رجل إلا حين تكون في حالة حرب، يمكنها أن تفعل ذلك دون عدو خارجي، بل إن المصلحة هي عدوه الدائم وكل أمة تحمل أعدائها داخلها، حتى الأفراد أنفسهم يمكن أن يجدوا في أنفسهم خصماً. ومن هنا تتحدث أرندت عن فضيلة الفزع التي كرسها قائد الثورة الفرنسية وأنها أدت إلى شيوع ثقافة نكران الذات لدى الثوار. هذه الشفقة مضامين نفسية جديدة كشفتها حنة آرندت ورأت فيها فضائل سياسية انعكست على حماسة الجماهير. تصحح أرندت الخطأ الشائع حول انتساب الثورة الفرنسية لفلاسفة التنوير بدءاً من فولتير ومونتيسيكيو وجاك روسو معتبرة أن فلسفتهم السياسية هزيلة إذا ما أخذنا في الاعتبار القامات الفلسفية الكبرى التي أسست لحركات التنوير في الفكر الأوروبي، لكنها تعود وتقرّ بأثرهم الكبير في مستوى وجدان الثورة وترد ذلك إلى طرحهم مفهوم "الحرية" بشكل مختلف كلياً عن السياق الذي قبله، ذلك أن الحرية التي طرحها هؤلاء الثلاثة كانت تشير إلى الحريات العامة ولا حرية خارج المجال العام الذي يمس الناس في حياتهم. إعادة قراءة الثورة عند أرندت ليس منفصلاً عن تتبع مفاهيم أخرى كالعنف والقوة وعلاقتهما بالسياقات الاجتماعية، فالقوة بحسبها مدخلا مهما لفهم العالم الاجتماعي، حيث كل المؤسسات السياسية ما هي إلا تجليات وتجسيدات لمفهوم القوة. متن الكتاب يفاجئك كثيراً بقراءة متعمقة للتاريخ الثوري عبر التجربة الفرنسية والأمريكية والثورات المتعاقبة ولا سيما الثورة البلشفية الروسية، وينطلق تحليل أرندت لمفهوم الثورة باعتبار أن الثورة الفرنسية هي المرجعية لمفهوم الثورة بمعناه الحالي الذي استقر بعدها واعتماداً على مقولة شائعة: "الثورة لا تكون إلا بصيغة فرنسية" ولكنها تعزو هذه المثالية في قراءة الثورة الفرنسية لأسباب تتعلق بالجماهير في حين أن الثورة الأمريكية تبدو مهمشة لذات السبب. في الفصل الأول "الحرب والثورة" تبحر أرندت في بحر القرن العشرين لتلتقط منه شواهد لرؤيتها عن العلاقات السياسية عبر ثنائية: الحرب والثورة، الاستبداد والحرية وكيف بقيت هذه الثنائيات على الرغم من انتهاء مبرراتهما اللاهوتية والفلسفية، فالثورة التقنية التي صبغت القرن العشرين لم تحظ بذلك الاحتفاء وتقول :الصاروخ المدمر لا يبرر الآن شن حرب دفاعية ساحقة فكل صاروخ له صاروخ مضاد، لكن الثورة قلبت العلاقات بين الشعوب وجيوشها فبعد أن كانت الحرب تعني الإبادة بفعل التصارع على التسليح تحولت الجيوش في زمن الثورات إلى رادع للشعب نفسه بعد أن تحولت الثورات إلى معادل للبحث عن الحرية، فالحروب القديمة بحسب آرندت لم تكن بسبب التوق إلى الحرية بل لم تفرق أصلاً بين الحرب الدفاعية أو الاستباقية ذات الطابع العدواني. وبجانب الدافع المثالي للثورة الفرنسية التي افترست أبناءها لاحقاً كانت نظيرتها الأمريكية الناجحة من وجهة نظر أرندت قائمة على تدشين سلطة جديدة في بلد ناشئ، فهي لم تنتزع السلطة من أحد رغم طابعها الاستعماري القائم على إنكار حق أصحاب الأرض واضطهاد الأقليات المختلفة عرقياً، لكن سبب نجاحها رغم ذلك قام بسبب بزوغ حركات الهجرة إلى البلد الجديد، وفي النهاية تبقت الثورة بمعناها المتخلف في التجربة الروسية التي تسمي آرندت قادتها بمغفلي التاريخ.
هذا الموضوع قابل للنسخ .. يمكنك نسخ أى رابط من تلك الروابط الثلاثة ولصقه بصفحاتك على المواقع الإجتماعية أو بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code: